بسم الله الرحمن الرحيم
لم أدر، في الحقيقة والواقع، لماذا أسطر هذه الحروف والكلمات! وقد سبقني التاريخ على امتداد سنينه الطوال، وسبقتني الاجيال في ذلك! فلا ثغرة تركت ولا خلأ بقى الا وتناولته الأقلام والعقول الصائبة، وهي تتأرجح على وريقات بيضاء، لتسرد حكاية الشرف باعلى درجاته، والعزة بما تحمله الكلمة من معنى، والخلق العظيم الموروث عن الرسول الأكرم (ص)، المخاطب من الباري عز وجل "... انك لعلى خلق عظيم ." (١) والمروءة، التي لا تزال الحلقة المفقودة، عند الكثير من النساء والرجال، اعتنقتها وامتزجت بها فأصبحت جزءا منها، والعظمة التي تسمرت عليها الأعين والنظرات، فكانت لها بكل ما فيها، لأن العظمة تحتاجها وهي لا تحتاج لذلك، والصمود الذي افتقر اليه الناس، كان عند قدميها راكعا، مستجديا، والصبر الذي ضارع صبر أيوب (ع)، مل من الوقوف عندها وما ملت! ... فكيف، اذن، ادون ترشحات فكري وقطرات ذهني، وهما قاصران عن بلوغ المأرب، والغاية والهدف، والنيل ولو بجزء يسير مما ارنو اليه وأتنبأ به ؟ ... فهل هي الدنيا وما تحتويه، وما تحيط بنا من خيوطها وشباكها، نتصارع عليها ونأخذها او تأخذنا غلابا ؟ فننال ما تمنينا ه، وتغمرنا الفرحة ثوان معدودة ؟ وينطبق علينا القول:
وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال
إذ الاقدام كان لهم ركابا. (٢)
فهل ما نقدم عليه ونمتطيه، هو الغلبة على كل شيئ استعصى علينا ؟ ... فيا أيتها السيدة الجليلة، الطاهرة، المطهرة، الراضية، المرضية، ماذا اكتب عنك في ذكرى ميلادك الاغر ؟ ... عن اية منقبة واي فضل، حنو، مقام، مكانة، رفعة وعلو شأن ؟ ...
أشار الرواة إلى أن سيدة نساء العالم، فاطمة الزهراء (ع)، ولدت يوم الجمعة في العشرين من جمادي الآخرة، بعد البعثة النبوية الشريفة بخمس سنوات، وبثلاث سنوات بعد (الإسراء والمعراج). هذا ما ذكرته مصادر الشيعة. وما ذكره اخواننا أهل السنة والجماعة، ان ميلادها الميمون، كان في السنة الخامسة قبل البعثة في مكة المكرمة، والنبي (ص) له من العمر خمسة وثلاثون عاما. (٣). فالاختلاف نظرة زاويتين في طيات التاريخ، ذابتا في ميلاد أضاء السموات والارضين، وتداعت له اركانها، مهللة مع الملائكة، وصادحة بانشودة مباركة، عمت الوجود بما فيه من كائنات ومخلوقات، ولا يخفى ما كان صدى ذلك على أشرف الرسل(ص)، والفرحة التي غمرت بيت النبوة، في ذلك العصر المدلهم، الذي اعتاد فيه اعراب الجاهلية، على وأد الرضيعات ودفنهن أحياء! ناهيك عما كانت تتعرض له المرأة آنذاك، من انتهاك لحرمتها والمعاملة التي كانت تتلقاها، كبضاعة تنتقل من يد إلى يد! ولا حول لها في ذلك ولا قوة! وما كانت تغص به (خيام) الجاهليين، من نساء سبايا وجوار، يمتهن ما شاء لهن الأسياد! حيث شهدت (ع) وهي في عمر الورد، احداثا كثيرة، بقيت في ذاكرتها محفورة، متضاربة، وكانت العون والمعين للنبي (ص)، فيما عاناه وتعرض له من جفاء قريش وعدائها، لا سيما عمه (ابو لهب ) وامرأته ام جميل، وقد بالغا في إيذاء الرسول (ص)، خاصة بالقاء القاذورات امام بيته ... فكانت تقوم (ع) بتنظيف المكان وتطهيره، وشاركت والدها (ص) في شعب ابي طالب، خلال ثلاث سنوات من الحصار، بما تحمله من ألم وعناء وجوع، جراء محاصرة قريش لهم، مما أثر على صحتها (ع)، لكن ذلك زادها إيمانا وصلابة، واضفى عليها تجارب كثيرة، أفادت منها على امتداد حياتها الشريفة ... ولم يمض وقت طويل على نهاية الحصار الظالم، الذي خرجت منه مرفوعة الهامة، حتى ثكلها الموت بوفاة امها السيدة خديجة (ع)، فتحملت المصاب، صامدة، صلبة العود، بالصبر والوقوف إلى جانب الرسول الأكرم(ص)، لتشغل مكان امها الفقيدة، وتقوم بما استطاعت لوالدها العظيم (ص)، وهي في ربيع العمر، ما يخفف من حزنه، ففازت بذلك ب (ام ابيها). (٤) طوال حياتها المباركة، ولم يذكر لنا التاريخ ان أحدا من الرجال أو النساء، لعب دورا مما قامت به الزهراء (ع)، خلال الأحداث الجسام، عند مصاحبتها لوالدها العظيم (ص)، أو حتى الاقتراب من ذلك، فقد عقم الدهر ان يأتي بمثلها إلى الآن! فما اكثر المتبجحين والمتبجحات، وما أقل العظام في هذا المسار! وما اندر السائرين على خطى الزهراء البتول (ع)، وما أكثر العبر واقل الاعتبار !
ان المتتبع للروايات والأخبار التي تدور حول الزكية (ع)، يرى بوضوح ان التاريخ، رغم السحب السوداء التي غطت سماءه، بواسطة الأقلام المأجورة التي ترتزق على فتات موائد هذا وذاك، أظهر صحفا بيضاء، ناصعة، متحدثا وراويا ما تمتعت به سيدتنا (ع) من فضائل، منذ ولادتها حتى التحاقها بالرسول الاعظم (ص) وهي في ريعان الشباب، وقد كانت جنبا إلى جنب مع حامل الرسالة الالهية أينما حل ورحل. فقد هاجرت إلى المدينة المنورة، مع اختها ام كلثوم وعدد من الأصحاب، في السنة الأولى من الهجرة ._ (٥). أما ما حوته من اسماء والقاب، ان دل على شيئ، فإنما يدل على المكانة العلوية، والمقام الإلهي الرفيع عند الله عز وجل، وحتى تسميتها ب (فاطمة)، كانت لها دلالتها الواضحة على شخصيتها ودورها في الدين القويم. ذكر الخطيب البغدادي وابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة " ان الله تعالى أسماها فاطمة لانه فطمها ومحبيها عن النار ."، وقال محب الدين الطبري في ذخائر العقبى " ان الله تعالى فطمها وولدها عن النار ." (٦). فالتي هكذا سميت ومن الله عز وجل فطمت وذريتها، وابعدت عن جهنم التي قال جل جلاله فيها ونارها التي تقول " ... هل من مزيد " (٧)، ... " قوا أنفسكم واهليكم نارا وقودها الناس والحجارة ..." (٨)، هي أفضل نبراس ومشعل وهاج لكل من أراد الخطو، على مسار الحق والحقيقة بصدق وإخلاص. فاين الاقاحي والكواكب الزاهرة منها ؟. ان العرب تسمي الأبيض المشرب بالحمرة بالازهر ومؤنثه الزهراء. الا انه روي عن النبي (ص) انه سماها بالزهراء، لأنها ازهرت لأهل السماء كما النجوم لأهل الأرض، وذلك لما تمتعت به من زهد وورع واجتهاد في البيان. ونقل بعض المحدثين وأصحاب السير عنها، عبارات واوراد خاصة انفردت (ع) بها عن غيرها ک: تسبيح الزهراء، دعاء الزهراء، وصلاة الزهراء وغير ذلك. (٩) ... فالانحصار في الشخصية وتفردها بخصائص لم يحظ بها غيرها قط، هو برهان آخر على عظمة امرأة، وسيدة جليلة، لم ير الدهر مثيلا لها ويتحف الإنسانية بنموذج مساو او على مستواها لحد الان. والقابها الأخرى التي توالت عليها كذلك، حيث ذكر النووي في شرح مسلم حول لقبها (البتول)، بأن ذلك لانقطاعها عن نساء زمانها دينا وفضلا ورغبة في الآخرة. (١٠). وانظر إلى لقبها الاخر (الحوراء الانسية ). أورد الطبراني في المعجم الكبير، عن النبي (ص) ان " فاطمة حوراء انسية. فكلما اشتقت إلى رائحة الجنة، شممت رائحة ابنتي فاطمة." (١١)، وسميت أيضا بالصديقة لأنها لم تكذب قط. (١٢)، وبالمحدثة لان الملائكة تحدثها. (١٣)، وبالبضعة لقول الرسول الاعظم (ص): فاطمة بضعة مني. _ (١٤)، وبالزكية، المرضية، الحانية، والريحانة وغير ذلك.