لقد استند الإمام (قده) إلى هذا الشاهد التاریخیّ ومبادئ العدل والمساواة والإنصاف فی الإسلام؛ لیبرز حقوق غیر المسلمین عموماً، وحقوق أتباع الدیانات الأخرى فی الجوانب الآتیة:
1. الاعتراف بهم وبالاختلاف معهم:
من خلال احترام هذا التنوّع والقبول به؛ لأنّه جزء من رؤیة الإسلام لأتباع الأدیان الأخرى، ولیس لاعتبارات مصلحیّة أو سیاسیّة أو ظرفیّة، فهم -فی کلمات الإمام (قده) - "إخواننا الإیرانیّون"[12]، ومن "أبناء شعبنا، ومن رعایا بلادنا، وإنّی آمل أن تکون حکومة العدل الإسلامیّ مفیدة لهم، وأن یعیشوا فی کنف الإسلام مرفّهین أحرار وبشکل طبیعیّ"[13]، و "لهم احترامٌ خاصّ؛ وهم إخوة"[14].
إذاً، فهؤلاء مواطنون طبیعیّون. والعلاقة معهم یجب أن تکون ضمن "الاحترام التامّ"، فهم "غیر المشرکین"[15] الذین طالما اتُّهِموا بالتآمر فی صدر الإسلام.
جاء هذا الإقرار بالدور الطبیعیّ والحقوق والاحترام بوصفهم مواطنین مساوین لغیرهم أفراداً، وجماعة لها احترامها وتقدیرها فی نظر الإمام (قده).
2. الحقوق السیاسیّة:
لقد تعامل الإمام (قده) مع أبناء الأدیان الأخرى باعتبارهم أصحاب حقّ فی إقرار النظام السیاسیّ الذی یریدون، وفی المساهمة فی التحرّکات السیاسیّة المفصلیّة والتأسیسیّة، وکذلک التفصیلیّة؛ بدءاً من إعطاء رأیهم فی شکل النظام برمّته، مروراً بدورهم فی الحکومة والبرلمان -أی التمثیل السیاسی- أفراداً وجماعة دینیّة ذات احترام ووضع خاصّ إیجابیّ.
وفی نداء له للشعب الإیرانیّ، یحثّه فیه على التصویت فی الاستفتاء على الجمهوریة الإسلامیّة، یقول الإمام (قده): "على الجمیع شیعة وسنة، وأقلّیّات دینیّة، أن یخرجوا غداً ویدلوا بأصواتهم؛ لإنقاذ بلدهم من ورطتها وتعاستها. إنّ الجمیع شرکاء فی الحقوق، وسیحصلون على حقوقهم"[16].
إنّ هذا الحقّ السیاسیّ لیس شکلیّاً؛ بل هو من الحقوق الأساسیّة غیر القابلة للتصرّف؛ فحین یدعو الإمام (قده) الجمیع إلى للمشارکة فی الاستفتاء، یعلن رأیه بدعم التصویت بـ"نعم"، لکنّه لا یجبر أحداً على ذلک. فجمیع المواطنین -بمن فیهم غیر المسلمین- یتمتّعون بالحقّ الأساس، وهو التصویت لشکل النظام الذی یریدون، فهم أحرار فی أن یرفضوا الجمهوریّة الإسلامیّة، أو أن یختاروا أیّ نظام آخر، فذلک لا یلغی حقّهم الجوهریّ الأساس فی رسم السیاسة العامّة، بقدر قدرتهم على التأثیر فی التصویت؛ لأنّ المشارکة السیاسیّة هی الأهمّ هنا: "إنّی أطلب منکم جمیعاً أن تعطوا صوتکم للجمهوریّة الإسلامیّة، طبعاً أنتم أحرار، یمکنکم أن تصوّتوا لما تشاؤون، یمکنکم أن تختاروا بین البطاقتین التی تحمل إحداها "نعم" والأخرى "لا"، ویمکنکم أن تختاروا ما شئتم فی البطاقة التی تحمل "لا"، فلیس من الضروری أن تکون "لا" مجرّدة، لکم الحقّ، وتستطیعون أن تکتبوا فیها ما شئتم: "جمهوریّة دیمقراطیّة" أو "نظام ملکیّ"، اکتبوا ما شئتم، أنتم مخیّرون، ولکنّ الاستفتاء یعنی "نعم" أو "لا"؛ فهو لیس انتخاباً"[17].
وتشمل المشارکة السیاسیّة -أیضاً- المواقع السیاسیّة العلیا من حکومة وبرلمان. وهذا ما یؤکّده الإمام الخمینی (قده) فی ردّه على سؤال عن دور الأقلّیّات الدینیّة، وخصوصاً الیهود والمسیحیّین فی الحکومة المقبلة: "طبعاً، سیکون هناک مکان للأقلّیّات الدینیّة فی الحکومة الإسلامیّة، ولهم الآن نواب، ودخلوا فی البرلمان، ونحن فی الحکومة الإسلامیّة نؤکّد على حقّهم هذا"[18].
3. الحرّیّات الاجتماعیّة والفردیّة:
یقرّ الإمام الحرّیّة الاجتماعیّة والفردیّة لکلّ أبناء الشعب ولأیّ فئة انتموا، وخصوصاً لغیر المسلمین من أتباع الدیانات المحترمة ومن غیرهم، بل ویدافع عن حرّیّتهم وحقوقهم؛ إذ یؤکّد أنّ للشیوعیّین أیضاً الحقّ فی مناقشة عقائدهم وبیانها؛ شرط عدم التآمر على البلاد[19]: "إنّ الأقلّیّات الدینیّة لیست حرّة فحسب؛ بل إنّ الحکومة الإسلامیّة ترى من واجبها الدفاع عن حقوقها. مضافاً إلى ذلک، فإنّ لکلّ إیرانیّ الحقّ بالتمتّع بحقوقه الاجتماعیّة، لا فرق فی ذلک بین المسلم والمسیحیّ أو الیهودیّ أو أیّ مذهب آخر"[20].
ویرى الإمام (قده) أنّ واجب الحکومة الإسلامیّة هو منح السعادة لکلّ فئات الشعب، مع غضّ النظر عن انتمائهم الدینیّ والقومیّ، وأنّ واجبها الدفاع عنهم وحمایة حقوقهم؛ لأنّ الإسلام یهتمّ کثیراً برفاهیّة الناس، براحة الناس، ولا یجعل فرقاً فی هذه الأمور بین فئة وأخرى"[21].
ویؤکّد الإمام (قده) أمام أبناء الطائفة الزرادشتیّة أنّ مصالحهم وحقوقهم ومعیشتهم مصانة، وأنّ معیشتهم ورفاهم جزء من رفاه الشعب الإیرانیّ، وأنّ الإسلام یرید لجمیع فئات الشعب الرفاه والسعادة[22].
وواقع الحال أنّ ما أثاره الإمام (قده) بشکل واضح خلال لقاءاته مع أعضاء الطوائف الدینیّة غیر المسلمة فی إیران؛ هو الضمانة لهم على حقوقهم السابقة واللاحقة فی الدولة الإسلامیّة، وعلى أمر آخر یُفسّر لنا محور الصراع الاجتماعیّ والسیاسیّ؛ إذ یکشف ذلک عن البیئة المعرفیّة التی تحدّد آلیّة الاشتغال تجاه الأعداء والخصوم... إنّها آلیّة سیاسیّة، ولیست دینیّة.
لقد رکّز الإمام (قده) خلال هذه اللقاءات بشکل واضح على الصراع بین المستکبرین والمستضعفین؛ على ناهبی ثروات الشعوب، على الأغنیاء المترفین سارقی الفقراء، وعلى کون الشاه ونظامه استکباریّین. وهذا هو المعیار، لا انتماؤهما الدینیّ.
والأمر نفسه ناقشه الإمام (قده) مع ممثّلی الطائفة الیهودیّة؛ إذ نزع فتیل الصراع الدینیّ بین المسلمین والیهود، فجاء تحدید لموارد الصراع سیاسیّاً: "جبهة الاستکبار والظلم، مقابل جبهة المستضعفین وأصحاب الحقّ. من هنا، فلیس ثمّة صراع مع الدین الیهودیّ، وهو دین محترم، ولا مع الیهود بوصفهم یهوداً؛ بل الصراع هو مع الصهیونیّة؛ لأنّها جزء من الاستکبار العالمیّ وأداة بیده"[23]. والمعیار نفسه ینطبق على حکّام المسلمین؛ وفی مقدّمتهم الشاه.
ما تقدّم یُفسّر لنا السماحة والودّ اللذین عبّر عنهما الإمام (قده) فی معالجته لشؤون العلاقة مع غیر المسلمین فی الدولة الإسلامیّة، کما یراها؛ إذ إنّهم لا یشکّلون خطراً على الإسلام والدولة؛ بل قد تعرّضوا إلى الظلم والتعسّف من قبل النظام الشاهنشاهیّ البائد مثل الأکثریّة المسلمة؛ ولذا فإنّ واجب الثورة الإسلامیّة إنصافهم وحمایتهم ومنحهم إمکانیّات العیش الحرّ السلیم المستقرّ، والرفاهیّة والرخاء تحت شرط واحد یطال المسلمین قبلهم؛ وهو عدم الإخلال بالنظام العامّ[24].
خاتمة:
بناءً على ما تقدّم، استطاع الإمام (قده) أن یُقدِّم حلاً لمسألة مشارکة الشعب فی الحکومة، ولمسألة الأقلّیّات الدینیّة وغیر المسلمین فی الدولة الإسلامیّة، وقد جاء الحلّ نابعاً من المبادئ الإسلامیّة؛ حیث یضمن الحرّیّات والحقوق الإنسانیّة لکلّ مواطن، بعیداً عن منطق الذمّیّین التاریخیّ أو الدولة اللیبرالیّة العلمانیّة.
لقد أنشأ الإمام (قده) حالة مواطنة إسلامیّة من داخل الفقه السیاسیّ الإسلامیّ المعاصر، فی اجتهاد یراعی المبادئ الإسلامیّة ویطبّقها بشکل یتناسب مع العصر والظروف التاریخیّة الراهنة دولیّاً.
[12] مقابلة أجراها مراسل التلفزیون السویسریّ مع الإمام الخمینی (قده) فی باریس، بتاریخ: 9 صفر 1399هـ.ق.
[13] الخمینی، روح الله: صحیفة الإمام (قده)، ج6، من خطاب للإمام الخمینی (قده) فی طهران، بتاریخ: 1399هـ، ص207.
[14] ن.م.، من خطاب للإمام الخمینی (قده) للدعوة إلى الاستفتاء، بتاریخ: 30 ربیع الثانی 1399هـ.ق.
[15] ن.م.، من خطاب للإمام الخمینی (قده) فی قم المقدّسة مع مجموعة من الیهود الإیرانیّین، بتاریخ: 17 جمادی الثانیة 1399هـ.ق.
[16] الخمینی، صحیفة الإمام (قده)، م.س، ج6، من خطاب للإمام الخمینی (قده) للدعوة إلى لاستفتاء، ص345.
[17] ن.م.
[18] الخمینی، صحیفة الإمام (قده)، م.س، ج5، من مقابلة للإمام (قده) مع صحیفة نوفل دی شاتو الباریسیّة، بتاریخ: 18 ذو الحجة 1398هـ.ق، ص94.
[19] یقول الإمام (قده): "إنّ الشیوعیّین أحرار فی ظلّ الدولة الإسلامیّة فی بیان عقائدهم..."، "إنّ المارکسیّین أحرار فی بیان عقائدهم فی المجتمع.. فالکلّ حرّ فی بیان عقیدته، لکنه لیس حرّاً فی التآمر". انظر: منهجیّة الثورة الإسلامیّة، مقتطفات من أفکار الإمام الخمینیّ (قده) وآرائه، طهران، مؤسّسة تنظیم ونشر تراث الإمام الخمینیّ (قده)، 1996م.
[20] ن.م.
[21] الخمینی، صحیفة الإمام (قده)، م.س، من خطاب للإمام (قده) خلال لقاء له بأعضاء الطائفة الیهودیّة فی إیران فی مدینة قم المقدّسة، بتاریخ: 17 جمادی الثانیة 1399هـ.ق.
[22] ن.م.، من خطاب للإمام (قده) خلال لقاء له بأعضاء الطائفة الزرادشتیّة، بتاریخ: 1399هـ.ق.
[23] انظر: الخمینی، صحیفة الإمام (قده)، م.س، اللقاءات المذکورة مع کلّ من المسیحیّین والأرمن والیهود والزرادشت.
[24] ن.م.خطابه الداعی إلى الاستفتاء على الجمهوریّة الإسلامیّة.