هجرة الامام الخميني (ره) الى باريس عام 1357 شمسي، شكّلت منعطفاً تاريخياً بالنسبة لنهضة الشعب الايراني المسلم ضد حكومة بهلوي .. توجّه الامام الى فرنسا رغم انه كان بموافقة الحكومة، إلا أنه عملياً انتهى لصالح الثورة ومهد الطريق لإنتشار نداء الثورة على الصعيد العالمي .. وفي الوقت الذي نسجل تحية إجلال وإكبار لقائد الثورة الاسلامية الكبير (قدس)، نستعرض مع القراء الكرام ذكرى الهجرة المصيرية :
ان اصرار الامام على مواصلة نشاطه السياسي ضد النظام الشاهنشاهي، وعجز الحكومة العراقية عن التضيق على سماحته، هذا من جهة. ومن جهة أخرى التصور الساذج للنظام البهلوي بإمكانية رصد تحركات الامام والتحكم بها، وذلك من خلال انتقاله الى بلد ثالث مثل تركيا أو الكويت. في ضوء ذلك حاولوا اقناع النظام البهلوي بممارسة المزيد من الضغط على الحكومة العراقية للتضييق على الامام واجباره على ترك العراق .. كما ان الامام وبوعيه لما استجد من اوضاع، يقرر الهجرة من العراق .
في البداية كان الامام يرغب بالتوجّه الى سوريا عن طرق الكويت، آخذاً بالاعتبار ان سوريا بلد ثوري ويعتبر معارضاً لشاه ايران. غير ان الكويت سرعان ما ادرك حقيقة الموقف. فاذا ما انتقل الامام الى الكويت، فان هذا البلد الصغير غير قادر على تحمل اعباء حضور شخصية بهذا الحجم باتت محط انظار العالم بأسره. اضافة الى ان الشعب الايراني في ارض الوطن، يتطلع الى سماحته بشوق ولهفة .. ولهذا امتنعت الحكومة الكويتية عن السماح للامام ومرافقيه بدخول اراضيها على الرغم من حصولهم على التأشيرة / الفيزا. وبذلك عاد الامام حزيناً من الحدود الكويتية في (13 / 7 / 1357 شمسي). وبعد يوم، اوضح سماحته " أنا لا أفكر بمكان معين، المكان ليس مهماً، المهم هو العمل بالتكليف الالهي. المهم بالنسبة لي هو مصالح الاسلام والمسلمين العليا " .. وأخيراً اضطر سماحته للتوجّه الى باريس العاصمة الفرنسية .
و لكن ما الذي حصل حتى وافقت فرنسا ـ في ظل تلك الظروف ـ على دخول الامام اراضيها ؟ انه لأمر مثير يستدعي التأمل ..
أجرى المسؤولون الفرنسيون مباحثات مع الايرانيين بعد دخول الامام الاراضي الفرنسية مباشرة، تقضي بتقييد تحركات سماحته في فرنسا. وكان هذا التوافق بمثابة نجاحاً بالنسبة لنظام الشاه، لأنه كان سيجنبه مواجه خطر آخر. فإذا لم يتمكن الامام من دخول فرنسا، سوف ينفذ قراره بالذهاب الى سوريه. وهكذا قرار لم يكن لصلاح نظام الشاه، ذلك ان وجود الامام في بلد ثوري سوف يضاعف من مشكلات نظام الشاه دون ادنى شك، وكان اركان النظام يعلمون ذلك جيداً. ولهذا كانوا سعداء ازاء التوافق مع فرنسا بهذا الشأن .. في الحقيقة ان فرنسا ساعدت النظام الشاهنشاهي بعدم انتقال الامام الى سوريه والمجيء الى فرنسا والاقامة فيها. ليس هذا فحسب، بل والتعهد بتقييد تحركات الامام .
الامام في النهاية كان ينبغي له الخروج من العراق، وان فرنسا كانت على استعداد لاستقباله. وبعد التوكل على الله والامل بعونه وعناية، والتشاور مع نجله (احمد أقا)، اختار الامام التوجّه الى باريس. وكان اختياراً موفقاً الى حد كبير، لأن ثمة احتمال قوي في امتناع معظم الدول التي كان الامام يرغب بالتوجه اليها، وعدم السماح للامام بدخول اراضيها، لانها إما تخضع للنفوذ الايراني أو داعمه لنظام الشاه، مثلما فعلت الكويت. غير ان هذا الاحتمال كان منتفياً بالنسبة الى باريس .. وهكذا توجه الامام الى فرنسا. وفي الوقت نفسه كان سماحته ينتظر الفرصة بحيث انه اذا ما اقتضت الضرورة سوف يتوجه الى سوريه قدر الامكان والاقامة فيها.
الحق والانصاف ان التحليلات العادية والمادية ليس بوسعها الاجابة عن هذه النقطة الهامة من التحول التاريخي. وهنا ينبغي عدم الاستغناء عن التدخلات الاستثنائية للعناية الالهية في تاريخ النهضة الاسلامية، وفي تسديد خطى الامام المجاهد والمضحي والصبور، وفهم حقيقة ما حدث.
المصدر: كتاب الامام الخميني في رؤية آية الله هاشمي رفسنجاني، ص 56 ـ 57.
---------------
القسم العربي ، الشؤون الدولية .