في النصف الثاني من عام 1320 هـ، ولد في ايران مولودٌ غيّر ـ فيما بعد، بثورته الالهية ـ مصير ايران والعالم الاسلامي. وفجّر ثورة اصطفت في وجهها منذ البداية القوى المهيمنة علي العالم واعداء حرية الشعوب واستقلالها كافة، سعياً للقضاء عليها. غير أنهم عجزوا ـ بفضل الله ومنّه ـ عن مواجهة انجازه العظيم، وخابوا في الاساءة الي العقيدة والفكر الذي كان ينادي به وينافح عنه. وقتئذ لم يكن أحد يعلم ان العالم سيتعرف علي هذا المولود ذات يوم باسم الإمام الخميني. مثلما لم يتصور أحد عندما بدأ ثورته أنه سيقف في مواجهة اعتى القوي
العالمية، وسيدافع عن استقلال البلاد ومجد الأمة الاسلامية، وسيمسي محيي دين الله في عصر تُمسخ فيه القيم.
يوم الكوثر
العشرون من جمادى الآخرة يوم الكوثر.. لما قضى ابناء الرسول الاكرم صَلَّي اللهُ عَلَيهِ وٰاله نحبهم، فرح مشركوقريش وراحوا يشنعون برسول الله بأنه أبتر لا ذرية له. فأنزل الله تعالي: انا اعطيناك الكوثر ... إنّ شانئك هو الابتر.. فكان يوم العشرين من جمادى الآخرة يوم تدفق كوثر الولاية والامامة علي هذه الارض، حيث ولدت سيدة نساء العالمين الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عَليهَاالسَّلاٰم، ولتصبح فيما بعد زوح وأنيس امام العدالة الانسانية الخالد، وأُمََّاً لذرية تقف في طليعتها كواكب الامامة الأحد عشر، الذين اضاءوا طريق هداية الانسانية، وكان كل بعد من ابعاد حياتهم حكمة الهية. فصلحهم وحربهم، ومناجاتهم وسكوتهم، وعلمهم وحلمهم، وحياتهم الحافلة بالمقاومة والعذاب والمختومة بالشهادة، وآخرها غيبة المهدي الموعود؛ كلّها حكم الهية تدل علي أن عباد الله مسدَّدون في زمن التحدي والتردي وتكالب الزمان، وانّ دعاة الحق ومنائر الهداية حاضرون دوماً يمارسون دورهم في هداية البشرية، وانّ الارض لا تخلومن حجة الله علي خلقه ابداً.
ومع بداية عصر الغيبة، تواصل الصراع الدائم بين الخير والشر. وجيلاً بعد جيل وقف الطغاة وعبدة المال والمفسدون في جبهة الظلام، وفي الجهة الاخرى وقف المؤمنون والصالحون والاخيار في وادي النور، لتتواصل المواجهة فيما بينهم.
كانت انوار الوحي قد اضاءت آفاق العالم. وزاد الاسلام من دائرة انتشاره بعد أن وجد طريقه الي قلوب عباد الله الاخيار، فضم ما حوليه من الشرق ووصل الي قلب اوروبا في الغرب، وشكّل حضارة عظمى لم يسبق لها مثيل، وشهدت البشرية تحولاً عظيماً في العلوم والآداب والثقافة والفنون وفي مختلف مظاهر الحضارة الحقيقية؛ كل ذلك علي اساس محكم من الايمان والعقيدة. إذ كان تقبل الفطرة السليمة لرسالة الرسول الامين التحررية، بدرجة من العمق والسعة اعجز حكّام السوء، مع كل ما أوتوا من ظلم وجور، من الوقوف في وجه تقدم هذه الرسالة الالهية.
كانت اوروبا تحترق في بربرية القرون الوسطي. وتخندق الماديون المهيمنون علي عباد الله المظلومين في ذلك الجزء من العالم، خلف الصليب للحيلولة دون سطوع رسالة النبي الاكرم صَلَّي اللهُ عليه وٰاله ـ الذي بشَّر به السيد المسيح عَلَيهِالسَّلاٰم ـ علي دنياهم المظلمة، لكي لا تبور بضاعة الكنيسة التي اخذت تعرض في القرون الوسطى عقيدة خالية من الروح، وتقيم حكومة تفتيش العقائد الاوروبية، التي عدّت بحق وصمة عار في تاريخ البشرية. ومما يدعوا الي الحيرة والاسى معاً هو أنهم في ذات الوقت الذي انتبهوا لأنفسهم وعزموا علي القضاء علي دين الرسول الخاتم صَلَّي اللهُ عليه وٰاله، كانت قد اندلعت في هذا الجزء من العالم نيران النفاق ونزعة التسلط وسادت الفرقة والاختلاف.
وفي غضون ذلك توفرت جملة من العوامل ساعدت في ظهور ارضية التحولات العلمية والصناعية في اوروبا، واستحواذ القوى والحكومات المعادية علي التكنولوجيا ووسائل التقدم. وأضفى انتشار العلوم والفنون الحديثه ـ الذي كان للحضارة الاسلامية دور مهم ومصيري فيها ـ علي المجتمع الاوروبي البدائي المتخلف رونقاً خاصاً.
وبدلاً من أن يفكر قادة البلدان الاسلامية بما يصلح حالهم واحوال شعوبهم، رجّحوا الاستسلام للغفلة والتخلف بدلاً من المبادرة للعمل والاجتهاد؛ فنتج عن ذلك تنامي سطوة الاعداء يوماً بعد آخر، فانطلقوا يوسعون من مناطق نفوذهم حتي باتت ـ مع الاسف ـ مناطق مترامية الاطراف من العالم الاسلامي تحت هيمنة الدول الاستعمارية. وهكذا تواصلت القصة المؤلمة لسلطة القوة والمال والكفر وتدخُّل المستعمرين السافر والخفي في مصير البلدان الاسلامية عدّة قرون.
وتوالت في ايران سلالات الملوك والسلاطين علي الحكم. ورغم الظلم والجور المتواصل الذي مارسته هذه السلالات الحاكمة، إلاّ أن الشعب الايراني المناضل، الذي لبى طواعية نداء التوحيد ورسالة الرسول الاكرم صَلَّي اللهُ عليه وٰاله، كان حتي وقت متأخر يرفع لواء الحضارة الاسلامية وثقافتها. غير أن ظلم الملوك، ودسائس الاستعمار الحديث الذي هدف من ورائها الي بث الفرقة والتنازع؛ كانا في تزايد مطرد، خاصة وان الاعداء دخلوا الميدان هذه المرة بوسائل جديدة، وبذريعة الاعمار والتقدم. وقد قادت خيانات السلاطين القاجار، وما اقترن بها من اجتياح للاراضي الايرانية من قبل الانجليز والروس القياصرة؛ الي ايجاد ظروف صعبة وقاسية. إذ كانت سفارات الدول الاستعمارية تتدخل بشكل سافر في جميع شؤون البلاد بما في ذلك عزل وتنصيب امراء البلاط والوزراء ومسؤولي المناصب العسكرية الهامة. كما تم في هذه الفترة العصيبة التخلي عن مناطق شاسعة من ارضنا الاسلامية الي الاجانب عبر اتفاقيات مشينة، في وقت كانت البلاد تشكومن انعدام الامن والعدالة وتفشي الفساد الاداري.
وخلال هذه الاحداث كشفت كل من فتوى العالم المجاهد الكبير آية الله العظمي الشيرازي بشأن نهضة تحريم التبغ والتي عرفت بـ حركة التنباكو؛ ودعوات الاصلاح التي اطلقها السيد جمال الدين الأسد آبادي، وقيام علماء الدين في ايران والنجف الاشرف بوجه الاستعمار البريطاني؛ كشفت عن مكانة علماء الاسلام واقتدار المؤسسة العلمائية الاسلامية في التأثير علي مجرى الاحداث، الأمر الذي جعل الانجليز يدركون مكامن الخطر، مما دفعهم الي ممارسة مختلف انواع الحيل والدسائس للتصدي لعلماء الدين، واشاعة سياسة الفصل بين الدين والسياسة؛ فظهرت حينها الماسونية، والمتغربون الجدد المتلبسون بلباس الثقافة، الذي أضرم وجودهم النيران في المعركة المشتعلة داخل البلاد. هذا من جهة. ومن اخرى كان الملك مظفر الدين القاجاري يفتقد الي ايّة قاعدة شعبيه بين ابناء شعبه، لذا كان يتطلع الي البلاطين الروسي والانجليزي. وبطبيعة الحال، كانت سائر البلاد الاسلامية تعيش حالاً مشابهة مؤسفة ايضاً.